فصل: تفسير الآيات (24- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (4- 8):

{وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8)}
{وعجبوا} يعني كفار مكة {أن جاءهم منذر منهم} يعني رسولاً من أنفسهم ينذرهم {وقال الكافرون هذا ساحر كذاب} قوله عز وجل: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً} وذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسلم فشق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلاً أكبرهم سناً الوليد بن المغيرة امشوا إلى أبي طالب فأتوا إلى أبي طالب وقالوا له أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنما أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك فأرسل إليه أبو طالب فدعا به فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم إليه قال له يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «وماذا يسألونني» قالوا ارفض آلهتنا وندعك وإلهك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم» فقال أبو جهل لله أبوك لنعطينكها وعشرة أمثالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «قولوا لا إله إلا الله» فنفروا من ذلك وقالوا أجعل الآلهة إلهاً واحداً كيف يسمع الخلق إله واحد {إن هذا لشيء عجاب} أي عجب {وانطلق الملأ منهم} أي من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب {أن امشوا} أي يقول بعضهم لبعض امشوا {واصبروا على آلهتكم} أي اثبتوا على عبادة آلهتكم {إن هذا لشيء يراد} أي لأمر يراد بنا وذلك أن عمر رضي الله عنه لما أسلم وحصل للمسلمين قوة بمكانه قالوا إن هذا الذي نراه من زيادة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لشيء يراد بنا وقيل يراد بأهل الأرض وقيل يراد بمحمد صلى الله عليه وسلم أن يملك علينا {ما سمعنا بهذا} أي بالذي يقوله محمد من التوحيد {في الملة الآخرة} قال ابن عباس يعنون النصرانية لأنها آخر الملل وإنهم لا يوحدون الله بل يقولون ثالث ثلاثة وقيل يعنون ملة قريش وهي دينهم الذي هم عليه {إن هذا إلا اختلاق} أي كذب وافتعال {أأنزل عليه الذكر} أي القرآن {من بيننا} أي يقول أهل مكة ليس هو بأكبرنا ولا أشرفنا قال الله تعالى: {بل هم في شك من ذكري} أي وحيي وما أنزلت {بل لما يذوقوا عذاب} أي لو ذاقوه لما قالوا هذا القول.

.تفسير الآيات (9- 12):

{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12)}
{أم عندهم خزائن رحمة ربك} يعني مفاتيح النبوة يعطونها من شاؤوا {العزيز} أي في ملكه {الوهاب} الذي وهب النبوة لمحمد صلى الله عليه وسلم {أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما} أي ليس لهم ذلك {فليرتقوا في الأسباب} يعني إن ادعوا شيئاً من ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصهلم إلى السماء ليأتوا منها بالوحي إلى من يختارون. وقيل أراد بالأسباب أبواب السماء وطرقها من سماء إلى سماء وهذا أمر توبيخ وتعجيز {جند ما هنالك} أي هؤلاء الذين يقولون هذا القول جند ما هنالك {مهزوم} أي مغلوب {من الأحزاب} يعني أن قريشاً من جملة الأجناد الذين تجمعوا وتحزبوا على الأنبياء بالتكذيب فقهروا وأهلكوا أخبر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو بمكة أنه سيهزم جند المشركين فجاء تأويلها يوم بدر وهناك إشارة إلى مصارعهم ببدر ثم قال عز وجل معزياً لنبيه صلى الله عليه وسلم {كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذي الأوتاد} قال ابن عباس: ذو البناء المحكم. وقيل ذو الملك الشديد الثابت والعرب تقول هو في عز ثابت الأوتاد يريدون بذلك أنه دائم شديد وقال الأسود بن يعفر:
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ** في طل ملك ثابت الأوتاد

وقيل ذو قوة وأصل هذا أن بيوتهم تثبت بالأوتاد، وقيل ذو القوة والبطش. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله عنهما والجنود والجموع الكثيرة يعني أنهم يقرون أمره ويشدون ملكه كما يقوي الوتد الشيء وسميت الأجناد أوتاداً لكثرة المضارب التي كانوا يضربونها ويوتدونها في أسفارهم وقيل الأوتاد جمع الوتد وكانت له أوتاد يعذب الناس عليها فكان إذا غضب على أحد مده مستلقياً بين أربعة أوتاد يشد كل طرف منه إلى وتد فيتركه حتى يموت. وقيل يرسل عليه العقارب والحيات. وقيل كانت له أوتاد وأحبال وملاعب يلعب عليها بين يديه.

.تفسير الآيات (13- 17):

{وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)}
{وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب} أي الذين تحزبوا على الأنبياء فأعلم الله تعالى أن مشركي قريش حزب من أولئك الأحزاب {إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب} أي إن أولئك الطوائف والأمم الخالية لما كذبوا أنبياءهم وجب عليهم العذاب فكيف حال هؤلاء الضعفاء المساكين إذا نزل بهم العذاب وفي الآية زجر وتخويف للسامعين {وما ينظر} أي ينتظر {هؤلاء} أي كفار مكة {إلا صيحة واحدة ما لها من فواق} أي رجوع والمعنى أن تلك الصيحة التي هي ميعاد عذابهم إذا جاءت لم ترد ولم تصرف {وقالوا ربنا عجل لنا قطنا} أي حظنا ونصيبنا من الجنة التي تقول وقيل نصيبنا من العذاب قاله النضر بن الحارث استعجالاً منه بالعذاب وقال ابن عباس يعني كتابنا والقط الصحيفة التي حصرت كل شيء قيل لما نزلت في الحاقة {فأما من أوتي كتابه بيمينه وأما من أوتي كتابه بشماله} قالوا استهزاء عجل لنا كتابنا في الدنيا {قبل يوم الحساب} وقيل قطنا أي حسابنا يقال لكتاب الحساب قط وقيل القط كتاب الجوائز، قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم {اصبر على ما يقولون} أي على ما يقول الكفار من التكذيب {واذكر عبد نا داود ذا الأيد} قال ابن عباس ذا القوة في العبادة.
(ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود كان يصوم يوماً ويفطر يوماً وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه» وقيل معناه ذا القوة في الملك {إنه أواب} أي رجاع إلى الله عز وجل بالتوبة عن كل ما يكره وقال ابن عباس مطيع لله عز وجل وقيل مسبح بلغة الحبشة.

.تفسير الآيات (18- 20):

{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)}
{إنا سخرنا الجبال معه يسبحن} أي بتسبيحه إذا سبح {بالعشي والإشراق} أي غدوة وعشية والإشراق هو أن تشرق الشمس ويتناهى ضوءها وفسره ابن عباس بصلاة الضحى وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس في قوله: {بالعشي والإشراق} قال كنت أمر بهذه الآية لا أدري ما هي حتى حدثتني أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى الضحى فقال: «يا أم هانئ إن هذه صلاة الإشراق» قلت والذي أخرجاه في الصحيحين من حديث أم هانئ في صلاة الضحى قالت أم هانئ: «ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فوجدته يغتسل وفاطمة بنته تستره بثوب فسلمت عليه فقال من هذه قلت أم هانئ بنت أبي طالب فقال مرحباً يا أم هانئ فلما فرغ من غسله قام وصلى ثمان ركعات ملتحفاً بثوب قالت أم هانئ وذلك ضحى» ولهما عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «ما حدثنا أحد أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى غير أم هانئ فإنها قالت إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيتها يوم فتح مكة فاغتسل وصلى ثمان ركعات فلم أر صلاة قط أخف منها غير أنه يتم الركوع والسجود».
قوله تعالى: {والطير} أي وسخرنا له الطير {محشورة} أي مجموعة إليه تسبح معه {كل له أواب} أي رجاع إلى طاعته مطيع له بالتسبيح معه {وشددنا ملكه} أي قويناه بالحرس والجنود قال ابن عباس كان أشد ملوك الأرض سلطاناً كان يحرس محراباً كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل. وروي عن ابن عباس أن رجلاً من بني إسرائيل ادعى على رجل من عظمائهم عند داود عليه الصلاة والسلام فقال هذا غصبني بقرة فسأله داود فجحده فسأل الآخر البينة فلم يكن له بينة فقال لهما داود قوما حتى أنظر في أمركما فأوحى الله إلى داود في منامه أن اقتل المدعى عليه فقال هذه رؤيا ولست أعجل عليه حتى أتثبت فأوحي إليه مرة أخرى فلم يفعل فأوحي إليه الثالثة أن يقتله أو تأتيه العقوبة فأرسل إليه داود فقال إن الله عز وجل أوحى إليّ أن أقتلك فقال تقتلني بغير بينة فقال داود نعم والله لأنفذن أمر الله فيك فلما عرف الرجل أنه قاتله قال لا تعجل حتى أخبرك إني والله ما أخذت بهذا الذنب ولكني كنت اغتلت والد هذا فقتلته فبذلك أوخذت فأمر به داود فقتل فاشتدت هيبة بني إسرائيل عند ذلك لداود واشتد به ملكه فذلك قوله تعالى: {وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة} يعني النبوة والإصابة في الأمور {وفصل الخطاب} قال ابن عباس يعني بيان الكلام وقال ابن مسعود علم الحكم والتبصر بالقضاء وقال علي بن أبي طالب هو أن البينة على المدعي واليمين على من أنكر لأن كلام الخصوم ينقطع وينفصل به. وقال أبيّ بن كعب فصل الخطاب الشهود والأيمان وقيل إن فصل الخطاب هو قول الإنسان بعد حمد الله تعالى والثناء عليه أما بعد إذا أراد الشروع في كلام آخر وأول من قاله داود عليه الصلاة والسلام.

.تفسير الآيات (21- 22):

{وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22)}
قوله عز وجل: {وهل أتاك} أي وقد أتاك يا محمد {نبأ الخصم} أي خبر الخصم فاستمع له نقصصه عليك. وقيل ظاهره الاستفهام ومعناه الدلالة على أنه من الأخبار العجيبة والتشويق إلى استماع كلام الخصماء والخصم يقع على الواحد والجمع {إذ تسوروا المحراب} أي صعدوا وعلوا المحراب أي بالبيت الذي كان يدخل فيه داود يشتغل بالطاعة والعبادة والمعنى أنهم أتوا المحراب من سوره وهو أعلاه وفي الآية قصة امتحان داود عليه الصلاة والسلام. واختلف العلماء بأخبار الأنبياء في سبب ذلك وسأذكر ما قاله المفسرون ثم أتبعه بفصل فيه ذكر نزاهة داود عليه الصلاة والسلام عما لا يليق بمنصبه صلى الله عليه وسلم لأن منصب النبوة أشرف المناصب وأعلاها فلا ينسب إليها إلا ما يليق بها؛ وأما ما قال المفسرون إن داود عليه الصلاة والسلام تمنى يوماً من الأيام منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وذلك أنه كان قد قسم الدهر ثلاثة أيام يوم يقضي فيه بين الناس ويوم يخلو فيه لعبادة ربه عز وجل ويوم لنسائه وأشغاله. وكان يجد فيما يقرأ من الكتب فضل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فقال يا رب أرى الخير كله قد ذهب به آبائي الذين كانوا قبلي فأوحى الله تعالى إليه أنهم ابتلوا ببلايا لم تبتل بها فصبروا عليها ابتلي إبراهيم عليه الصلاة والسلام بنمرود وذبح ابنه وابتلي إسحاق بالذبح وبذهاب بصره وابتلي يعقوب بالحزن على يوسف. فقال داود عليه الصلاة والسلام رب لو ابتليتني بمثل ما ابتليتهم صبرت أيضاً فأوحى الله عز وجلّ إنك مبتلى في شهر كذا في يوم كذا فاحترس. فلما كان اليوم الذي وعده الله به دخل داود محرابه وأغلق بابه وجعل يصلي ويقرأ الزبور فبينما هو كذلك إذ جاءه الشيطان وقد تمثل له في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن وجناحاها من الدر والزبرجد فوقعت بين رجليه فأعجبه حسنها فمد يده ليأخذها ويريها بني إسرائيل لينظروا إلى قدرة الله تعالى فلما قصد أخذها طارت غير بعيد من غير أن تؤيسه من نفسها فامتد إليها ليأخذها فتنحت فتبعها فطارت حتى وقعت في كوة فذهب ليأخذها فطارت من الكوة فنظر داود أين تقع فيبعث من يصيدها له فأبصر امرأة في بستان على شاطئ بركة تغتسل وقيل رآها تغتسل على سطح لها فرآها من أجمل النساء خلقاً فعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة فأبصرت ظله فنقضت شعرها فغطى بدنها فزاده ذلك إعجاباً بها فسأل عنها فقيل هي تشايع بنت شايع امرأة أوريا بن حنانا وزوجها في غزاة بالبلقاء مع أيوب بن صوريا ابن أخت داود فكتب داود إلى ابن أخته أن أبعث أوريا إلى موضع كذا وقدمه قبل التابوت وكان من قدم على التابوت لا يحل له أن يرجع وراءه حتى يفتح الله على يديه أو يستشهد فبعثه ففتح له فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأساً فبعثه ففتح له فكتب إلى داود بذلك فكتب إليه أن ابعثه إلى عدو كذا وكذا أشد منه بأساً فبعثه فقتل في المرة الثالثة فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود فهي أم سليمان عليه الصلاة والسلام.

.تفسير الآية رقم (23):

{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23)}
{إن هذا أخي} على ديني وطريقتي لا من جهة النسب {له تسع وتسعون نعجة} يعني امرأة {ولي نعجة واحدة} أي امرأة واحدة والعرب تكني بالنعجة عن المرأة وهذا على سبيل التعريض للتنبيه والتفهيم لأنه لم يكن هناك نعاج ولا بغي {فقال أكفلنيها} قال ابن عباس أي أعطنيها وقيل معناه انزل عنها وضمها إلي واجعلني كافلها والمعنى طلقها لأتزوجها {وعزني في الخطاب} يعني غلبني وقهرني في القول لأنه أفصح مني في الكلام وإن حارب كان أبطش مني لقوة ملكه والمعنى أن الغلبة كانت له عليّ لضعفي في يده وإن كان الحق وهذا كله تمثيل لأمر داود مع أوريا زوج المرأة التي تزوجها داود حيث كان لداود تسع وتسعون امرأة ولأوريا امرأة واحدة فضمها داود إلى نسائه.

.تفسير الآيات (24- 25):

{قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآَبٍ (25)}
{قال} داود {لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} أي بضمها إلى نعاجه. فإن قلت كيف قال داود لقد ظلمك ولم يكن سمع قول الآخر قلت معناه إن كان الأمر كما تقول فقد ظلمك وقيل إنما قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما يقول {وإن كثيراً من الخلطاء} أي الشركاء {ليبغي بعضهم على بعض} أي يظلم بعضهم بعضاً {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} فإنهم لا يظلمون أحداً {وقليل ما هم} أي هم قليل وما صلة.
والمعنى أن الصالحين الذين لا يظلمون قليل فلما قضى داود بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه وضحك وصعد إلى السماء فعلم داود أن الله تعالى ابتلاه فذلك قوله تعالى: {وظن داود} أي أيقن وعلم {أنما فتناه} أي ابتليناه وامتحناه وقال ابن عباس: إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه تحولا في صورتهما وعرجا وهما يقولان قضى الرجل على نفسه فعلم داود أنه إنما عنى به. وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن داود النبي صلى الله عليه وسلم حين نظر إلى المرأة فهم ففظع على بني إسرائيل أوصى صاحب البعث فقال إذا حضر العدو فقرب فلاناً بين يدي التابوت وكان التابوت في ذلك الزمان يستنصر به ومن قدم بين يدي التابوت لم يرجع حتى يقتل أو يهزم عنه الجيش فقتل زوج المرأة ونزل الملكان يقصان عليه قصته ففطن داود فسجد فمكث أربعين ليلة ساجداً حتى نبت الزرع من دموعه على رأسه وأكلت الأرض من جبهته وهو يقول في سجوده: رب زل داود زلة أبعد ما بين المشرق والمغرب رب إن لم ترحم ضعف داود ولم تغفر ذنبه جعلت ذنبه حديثاً في الخلق من بعده. فجاء جبريل من بعد أربعين ليلة فقال يا داود إن الله تعالى قد غفر لك الهم الذي هممت به فقال داود: إن الرب قادر على أن يغفر لي الهم الذي هممت به وقد عرفت أن الله عدل لا يميل فكيف بفلان إذا جاء يوم القيامة فقال رب دمي الذي عند داود فقال جبريل ما سألت ربك عن ذلك وإن شئت لأفعلن قال نعم فعرج جبريل وسجد داود ما شاء الله تعالى ثم نزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال سألت الله يا داود عن الذي أرسلتني فيه فقال قل لداود إن الله تعالى يجمعكما يوم القيامة فيقول له هب لي دمك الذي عند داود فيقول: هو لك يا رب فيقول الله تعالى فإن لك في الجنة ما شئت وما اشتهيت عوضاً عن دمك فهذه أقاويل السلف من أهل التفسير في قصة امتحان داود.
فصل في تنزيه داود عليه الصلاة والسلام عما لا يليق به وما ينسب إليه:
اعلم أن من خصه الله تعالى بنبوته وأكرمه برسالته وشرفه على كثير من خلقه وائتمنه على وحيه وجعله واسطة بينه وبين خلقه لا يليق أن ينسب إليه ما لو نسب إلى آحاد الناس لاستنكف أن يحدث به عنه فكيف يجوز أن ينسب إلى بعض أعلام الأنبياء والصفوة الأمناء ذلك. روى سعيد بن المسيب والحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة وهو حد الفرية على الأنبياء. وقال القاضي عياض: لا يجوز أن يلتفت إلى ما سطره الأخباريون من أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا ونقله بعض المفسرين ولم ينص الله تعالى على شيء من ذلك ولا ورد في حديث صحيح والذي نص عليه الله في قصة داود وظن داود أن ما فتناه وليس في قصة داود وأوريا خبر ثابت ولا يظن بنبي محبة قتل مسلم وهذا هو الذي ينبغي أن يعول عليه من أمر داود. قال الإمام فخر الدين حاصل القصة يرجع إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته وكلاهما منكر عظيم فلا يليق بعاقل أن يظن بداود عليه الصلاة والسلام. هذا وقال غيره إن الله تعالى أثنى على داود قبل هذه القصة وبعدها وذلك يدل على استحالة ما نقوله من القصة فكيف يتوهم عاقل أن يقع بين مدحين ذم ولو جرى ذلك من بعض الناس في كلامه لاستهجنه العقلاء وقالوا أنت في مدح شخص كيف تجري ذمه أثناء مدحك والله تعالى منزه عن مثل هذا في كلامه القديم.
فإن قلت في الآية ما يدل على صدور الذنب منه وهو قوله تعالى وظن داود إنما فتناه وقوله فاستغفر ربه وقوله وأناب وقوله فغفرنا له ذلك.
قلت ليس في هذه الألفاظ شيء مما يدل على ذلك وذلك لأن مقام النبوة أشرف المقامات وأعلاها فيطالبون بأكمل الأخلاق والأوصاف وأسناها فإذا نزلوا من ذلك إلى طبع البشرية عاتبهم الله تعالى على ذلك وغفره لهم كما قيل «حسنات الأبرار سيئآت المقربين».
فإت قلت فعلى هذا القول والاحتمال فما معنى الامتحان في الآية؟
قلت ذهب المحققون من علماء التفسير وغيرهم في هذه القصة إلى أن داود عليه الصلاة والسلام ما زاد على أن قال للرجل. انزل لي عن امرأتك واكفلنيها فعاتبه الله تعالى على ذلك ونبهه عليه وأنكر عليه شغله بالدنيا وقيل إن داود تمنى أن تكون امراة أو رياله فاتفق أن أوريا هلك في الحرب فلما بلغ داود قتله لم يجزع عليه كما جزع على غيره من جنده ثم تزوج امرأته فعاتبه الله تعالى على ذلك لأن ذنوب الأنبياء وإن صغرت فهي عظيمة عند الله تعالى.
وقيل إن أوريا كان قد خطب تلك المراة ووطَّن نفسه عليها فلما غاب في غزاته خطبها داود فزوجت نفسها منه لجلالته فاغتمَّ لذلك أوريا فعاتبه الله تعالى على ذلك حيث لم يترك هذه الواحدة لخاطبها وعنده تسعة وتسعون امرأة ويدل على صحة هذا الوجه قوله وعزني في الخطاب فدل هذا على أن الكلام كان بينهما في الخطبة ولم يكن قد تقدم تزوج أوريا لها فعوتب داود بسببين أحدهما: خطبته على خطبة أخيه والثاني: إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه. وقيل إن ذنب داود الذي استغفر منه ليس هو بسبب أوريا والمرأة وإنما هو بسبب الخصمين وكونه قضى لأحدهما قبل سماع كلام الآخر وقيل هو قوله لأحد الخصمين لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه فحكم على خصمه بكونه ظالماً بمجرد الدعوى فلما كان هذا الحكم مخالفاً للصواب اشتغل داود بالاستغفار والتوبة فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه الصلاة والسلام مما نسب إليه والله أعلم.
وقوله عز وجل: {فاستغفر ربه} أي سأل ربه الغفران {وخر راكعاً} أي ساجداً عبَّر بالركوع عن السجود لأن كل واحد منهما فيه انحناء. وقيل معناه وخرَّ ساجداً بعد ما كان راكعاً والله تعالى أعلم بمراده.
فصل:
اختلف العلماء في سجدة ص هل هي من عزائم السجود، فذهب الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنها ليست من عزائم سجود التلاوة قال: لأنها توبة نبي فلا توجب سجدة التلاوة. وقال أبو حنيفة: هي من عزائم سجود التلاوة واستدل بهذه الآية على أن الركوع يقوم مقام السجود في سجود التلاوة، وعن أحمد: في سجدة ص روايتان وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها.
(خ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سجدة ص ليست من عزائم السجود وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها قال مجاهد قلت لابن عباس أسجد في ص فقرأ ومن ذريته داود وسليمان حتى أتى فبهداهم اقتده فقال نبيكم ممن أمر أن يقتدى بهم فسجدها داود فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وللنسائي «عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في ص وقال سجدها داود توبة فنسجدها شكراً» عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة ص وهو على المنبر فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه فلما كان يوم آخر قرأها فلما بلغ السجدة تشوف الناس لسجوده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي توبة نبي ولكني رأيتكم تشوفتم فنزل وسجد وسجدوا» أخرجه أبو داود قوله تشوف الناس يعني تهيؤا وتأهبوا واستعدوا للسجود وعن ابن عباس قال: «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها تقول اللهم اكتب لي بها أجراً وحطّ عني بها وزراً واجعلها لي عندك ذخراً وتقبلها مني كما تقبلتها من عبد ك داود عليه الصلاة والسلام». قال ابن عباس: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سجدة ثم سجد فقال مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة» أخرجه الترمذي قال المفسرون سجد داود أربعين يوماً لا يرفع رأسه إلا لحاجة أو لوقت صلاة مكتوبة ثم يعود ساجداً تمام أربعين يوماً لا يأكل ولا يشرب وهو يبكي حتى نبت العشب حول رأسه وهو ينادي ربه عز وجل ويسأله التوبة وكان من دعائه في سجوده سبحان الملك الأعظم الذي يبتلي الخلق بما يشاء سبحان خالق النور سبحان الحائل بين القلوب سبحان خالق النور إلهي خليت بيني وبين عدوي إبليس فلم أقم لفتنته إذ نزلت بي سبحان خالق النور إلهي أنت خلقتني وكان في سابق علمك ما أنا إليه صائر سبحان خالق النور إلهي الويل لداود يوم يكشف عنه الغطاء، فيقال هذا داود الخاطئ سبحان خالق النور إلهي بأي عين أنظر إليك يوم القيامة وإنما ينظر الظالمون من طرف خفي، سبحان خالق النور إلهي بأي قدم أقوم أمامك يوم القيامة يوم تزل أقدام الخاطئين، سبحان خالق النور إلهي من أين يطلب العبد المغفرة إلا من عند سيده سبحان خالق النور، إلهي أنا لا أطيق حر شمسك فكيف أطيق حر نارك سبحان خالق النور إلهي أنا لا أطيق صوت رعدك فكيف أطيق صوت جهنم سبحان خالق النور إلهي الويل لداود من الذنب العظيم الذي أصابه سبحان خالق النور إلهي كيف تستر الخطاؤون بخطاياهم دونك وأنت تشاهدهم حيث كانوا، سبحان خالق النور إلهي قد تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي سبحان خالق النور إلهي اغفر لي ذنوبي ولا تباعدني من رحمتك لهواني سبحان خالق النور إلهي أعوذ بوجهك الكريم من ذنوبي التي أوبقتني سبحان خالق النور إلهي فررت إليك بذنوبي واعترفت بخطيئتي فلا تجعلني من القانطين ولا تخزني يوم الدين سبحان خالق النور وقيل مكث داود أربعين يوماً لا يرفع رأسه حتى نبت المرعى من دموع عينيه حتى غطى رأسه فنودي يا داود أجائع انت فتطعم أظمآن أنت فتسقى أمظلوم أنت فتنصر فأجيب في غير ما طلب ولم يجب في ذكر خطيئته بشيء فحزن حتى هاج ما حوله من العشب فاحترق من حرجوفه ثم أنزل الله تعالى له التوبة والمغفرة.
قال وهب: إن داود أتاه نداء أني قد غفرت لك قال يا رب كيف وأنت لا تظلم أحداً قال اذهب إلى قبر أوريا فناده وأنا أسمعه نداءك فتحلل منه، قال فانطلق داود وقد لبس المسوح حتى جلس عند قبره ثم نادى يا أوريا فقال من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني قال أنا داود قال ما جاء بك يا نبي الله قال أسألك أن تجعلني في حل مما كان مني إليك قال وما كان منك إليّ قال عرضتك للقتل قال بل عرضتني للجنة فأنت في حل فأوحى الله تعالى إليه يا داود ألم تعلم أني حكم عدل لا أقضي بالغيب ألا أعلمته إنك قد تزوجت امرأته، قال فرجع فناداه فأجابه فقال من هذا الذي قطع علي لذتي وأيقظني قال أنا داود قال ما جاء بك يا نبي الله أليس قد عفوت عنك قال نعم ولكن إنما فعلت ذلك بك لمكان امرأتك وقد تزوجتها قال فسكت ولم يجبه ودعاه مرة فلم يجبه وعاوده فلم يجبه فقام عند قبره وجعل التراب على رأسه ثم نادى الويل لداود ثم الويل الطويل لداود إذا وضعت الموازين بالقسط سبحان خالق النور الويل لداود ثم الويل الطويل له حين يسحب على وجهه مع الخاطئين إلى النار سبحان خالق النور فأتاه نداء من السماء يا داود قد غفرت لك ذنبك ورحمت بكاءك واستجبت دعاءك وأقلت عثرتك قال يا رب كيف وصاحبي لم يعف عني قال يا داود أعطيه يوم القيامة من الثواب ما لم تر عيناه ولم تسمع أذناه فأقول له رضيت عبد ي فيقول يا رب من أين لي هذا ولم يبلغه عملي، فأقول هذا عوض من عبد ي داود فأستوهبك منه فيهبك لي قال يا رب الآن قد عرفت أنك قد غفرت لي فذلك قوله فاستغفر ربه وخرَّ راكعاً {وأناب} أي رجع {فغفرنا له ذلك} أي الذنب {وإن له عندنا} أي يوم القيامة بعد المغفرة {لزلفى} أي لقربة ومكانة {وحسن مآب} أي حسن مرجع ومنقلب.
قال وهب بن منبه إن داود عليه الصلاة والسلام لما تاب الله عليه بكى على خطيئته ثلاثين سنة لا يرقأ دمعه ليلاً ولا نهاراً وكان أصاب الخطيئة وهو ابن سبعين سنة فقسم الدهر بعد الخطيئة على أربعة أيام يوم للقضاء بين بني إسرائيل، ويوم لنسائه ويوم يسيح في الجبال والفيافي والساحل ويوم يخلو في دار له فيها أربعة آلاف محراب فيجتمع إليه الرهبان فينوح معهم على نفسه ويساعدونه على ذلك، فإذا كان يوم سياحته يخرج إلى الفيافي ويرفع صوته بالمزامير فيبكي وتبكي الشجر والرمال والطير والوحوش حتى يسيل من دموعهم مثل الأنهار ثم يجيء إلى الجبال ويرفع صوته ويبكي فتبكي معه الجبال والحجارة والطير والدواب حتى تسيل من بكائهم الأودية ثم يجيء إلى الساحل فيرفع صوته ويبكي فتبكي معه الحيتان ودواب البحر وطين الماء فإذا أمسى رجع فإذا كان يوم نوحه على نفسه نادى مناديه إن اليوم يوم نوح داود على نفسه فليحضره من يساعده ويدخل الدار التي فيها المحاريب فيبسط فيها ثلاث فرش من مسوح حشوها ليف فيجلس عليها ويجيء أربعة آلاف راهب عليهم البرانس وفي أيديهم العصي فيجلسون في تلك المحاريب ثم يرفع داود عليه الصلاة والسلام صوته بالبكاء والنوح على نفسه ويرفع الرهبان معه أصواتهم فلا يزال يبكي حتى يغرق الفرش من دموعه ويقع داود فيها مثل الفرخ يضطرب فيجيء ابنه سليمان فيحمله ويأخذ داود من تلك الدموع بكفيه ويمسح بها وجهه ويقول يا رب اغفر ما ترى فلو عادل بكاء داود بكاء أهل الدنيا لعدله.